هدية ومأدبة عشاء وعلم أبيض لمن تتنازل حرمان نساء من الميراث بضغوط العيب والعار حرمان المرأة من الميراث يؤثر على نفسيتها ودورها الأسري أبها، الدمام: منى الشهري بداعي الطمع أو الجهل أو الخوف من مشاركة "أغراب" في الأملاك، تواصل بعض قبائل وعشائر وعائلات الجنوب سلب ميراث النساء ضاربين بالأمر الإلهي عرض الحائط. وكشفت مجموعة من النساء تحدثن لـ"الوطن" عن ممارسات متعددة في هذا الإطار وصلت إلى حد تحويل حق الإرث إلى عيب اجتماعي. ووفقاً لهؤلاء النسوة يتم الحرمان من الميراث بإحدى طريقتين أولاهما الضغط، والأخرى الحياء النابع من ضغوط ما يسمى بالعيب الاجتماعي. وتلعب الجدات والأمهات دوراً معتبراً في تلك الممارسات التي تنتهي فور التنازل بمأدبة عشاء وتقديم بعض الهدايا الذهبية ورفع علم أبيض على واجهة المنزل إعلاناً بتنازل بنات الأسرة عن ميراثهن. وقال مواطنون إن بعض النساء يجدن حرجاً في البوح برغبتهن في الحصول على ميراثهن لسببين: الأول هو الخوف من الوقوع في "عار المطالبة"، والثاني هو الرغبة في أن يرث أبناؤهن عنهن، وفي هذه الحالة لا تقام مراسم أو احتفالات، ويتم الأمر بشكل سري. بدوره، لفت شيخ قبائل سنحان قحطان سعد بن ناصر بن راسي القحطاني إلى أن منطقة عسير تختلف عن غيرها في قسمة الميراث، قائلاً إن 10% من النساء يطالبن بميراثهن فيما تتنازل الـ90% منهن. وعلى الطرف الآخر، حذر علماء وباحثون وقانونيون من خطورة استمرار الظاهرة خاصة إذا اقترنت بالإكراه. وقال الأكاديمي الدكتور عبدالواحد المزروع إنه لابد من التفريق بين أمرين.. الأول: التنازل عن طيب خاطر "وهذا حلال وجائز"، والآخر: حصول الإكراه "وهذا حرام ويصادم الشرع". بدوره، يربط الباحث في شؤون الأسرة الدكتور غازي الشمري بين هذه الظاهرة وما يعتبره "عادات جاهلية". مؤكداً أن سلب المرأة حقوقها يترك داخلها أثراً نفسياً بالغاً. ويشير المستشار القانوني عبدالعزيز فؤاد عسيري إلى أن التنازلات تتم بصورة ملتوية في أحيان كثيرة، فتارة تؤخذ على شكل "هبات"، وأخرى على شكل "بيع صوري"، وثالثة عن طريق تغييب النساء عند حصر التركة. -------------------------------------------------------------------------------- "الميراث" في ديننا ومجتمعاتنا نظام قرآني كامل "واجب النفاذ".. يشتمل بدقة على كل أنواع المال وصنوفه، ولا يعرف التمييز بين الذكور والإناث.. يضمن لكل وارث نصيبه دون أدنى انتقاص أو محاباة. فهل يعقل أن هناك من يعتمد ـ حتى الآن ـ العادات والتقاليد "أساسا" في توزيع الميراث، برغم ما تتضمنه من "مخالفات" أخطرها "حرمان" بعض الورثة لحساب الآخر؟ في منطقة "عسير" تتسع مخاطر "العادات" إلى حدّ تحويل "حق الإرث" إلى "عيب اجتماعي" يجب على المرأة "تجنبه" بالتنازل عن نصيبها لأخيها. علم أبيض، واحتفال كبير يتضمن خطبة "إشادة"، ومائدة عشاء تحضرها النساء.. في انتظار كل من تتنازل عن ميراثها. فإذا طالبت بحقها استحقت لعنة العشيرة، وغضب العائلة، وكراهية الإخوة، وأصبحت "منبوذة" بين أهلها. "الوطن" التقت عددا من أهالي عسير.. أجمعوا على أن "ثقافة العيب" تفرض على المرأة المبادرة إلى التنازل عن ميراثها لإخوتها لتضمن "مودّة" العائلة"، وتُسقط عن نفسها تهمة "العيب". البعض قالها صريحة: "العرف لا يعترف للنساء بأي حقوق في الميراث، ومن ثم لا حاجة إلى تنازلهن". آخرون حذروا من إسقاط حقوق المرأة لاصطدام ذلك بأحكام الشريعة الإسلامية من ناحية، والآثار السيئة المترتبة على ذلك في حياة المرأة، خاصة دورها في تنشئة أبنائها. وفي الوقت الذي تؤكد فيه كثيرات من نساء منطقة عسير حرمانهن من ميراثهن بإحدى طريقتين، إما "إكراها" أو "حياءً" تحت ضغط ما يسمى "العيب الاجتماعي" يلاحظ أن الجدات والأمهات ـ كبيرات السن ـ يفاخرن بأنهنّ تنازلن عن حقوقهنّ في الميراث. ولا يكتفين بما فعلن، بل يشجّعن بناتهنّ على اقتفاء آثارهن في التنازل لإخوتهنّ الذكور، ليُتوّج ذلك باحتفال يُرفع فيه "العلم الأبيض" عند بعض القبائل. على عكس تلك الجدات والأمهات تُعرب أم أحمد القحطاني ـ ربة منزل ـ عن ندمها لتنازلها وإحدى شقيقاتها عن ميراثهما في أراضي والدهما، بعد وفاته. تقول: جعلونا نفعل ذلك في غفلة منا، وبمباركة والدتنا، وقد عوّضنا إخوتنا الذين تنازلنا لصالحهم بأطقم "ذهب" لا تتجاوز قيمتها خمسة آلاف ريال، وهو مبلغ لا يساوي شيئاً أمام قيمة العقارات، كما أقاموا لنا احتفالا تضمن مأدبة عشاء حضرتها نساء القرية. وتصف "أم أحمد" الاحتفال بأنه محاولة "ترضية"، وإعراب عن التقدير للمتنازلة، مشيرة إلى أنها علّقت "علماً أبيضَ" على واجهة المنزل إعلاناً بتنازل بنات المنزل عن ميراثهن، وهذا ظلم للمرأة، ومخالفة للشرع. قضية مهمة تتوقف أمامها بقولها: أشعر بالقهر، فليس لي الآن مكان في ديار أبي".. وأسأل نفسي: ما مصيري لو أصبحت مطلقة أو أرملة؟.. قطعا لن أتمكن من السكن في منزل والدي الذي تقاسمه إخوتي. وهذا ما يُفسر أن بعض نساء عسير يفضلن البقاء مع أزواجهن حتى لو ذقن مرارة العيش، فليس للمرأة مكان يؤويها بعد الطلاق إلا أبناؤها إذا كانوا كبارا، أو إخوتها إذا "تعطّفوا" عليها، الأمر الذي تتحرّج منه الكثيرات. تنازل المرأة.. "حرجا" أبو عبدالرحمن الشهري يتفق مع "أم أحمد" في أن التقاليد المتوارثة منذ القدم تعتبر طلب المرأة حقوقها في الأراضي من إخوتها بعد وفاة والدها "عيبا"، ولا تزال تلك التقاليد باقية حتى الآن. يُضاف إلى ذلك اعتقاد كثيرين أن طلب المرأة حقها في الميراث يعني عدم ثقة بنات العائلة في قدرة إخوتهم الذكور على إعالتهن. مقارنة بسيطة بين الماضي والحاضر يعقدها الشهري تكشف أنه في السابق كان التنازل يتم تلقائياً، أما بعد إقامة المحاكم فصارت قضايا التنازل أمراً "روتينيًا"، ولم يعد الإخوة يطلبون من المرأة التنازل عن شيء، فالعرف لا يرى لها حقاً أصلا حتى تتنازل عنه. ومن خلال تجربته الشخصية يرى أن النساء يجدن حرجا من البوح برغبتهن في الحصول على حقهن بالميراث، مؤكدا أن أخواته رفضن تقسيم التركة بينهم لسببين: الأول أن عدم تنازلهن يلحق بهن "العار".. والثاني: رغبتهن في أن يرث أبناؤهن عنهن.. وفي هذه الحالة لا تقام مراسم أو احتفالات، أو مآدب، وتتم معالجة الأمر في سريّة بين أفراد العائلة. لا أنصبة للبنات تجربة أخرى مرت بها فاطمة الأسمري، حين سارعت أختها الكبرى بإعلان تنازلها عن حقها في ميراث الأراضي لإخوتها الذكور، الأمر الذي قابلته أخواتها الأخريات بالصمت التام، وعدم المطالبة بحقوقهن في الميراث، وهو ما شجع إخوتهن الذكور على تجاهلهن أثناء مناقشات تقسيم الإرث. فاطمة تجزم بأن خلافا لا يزال قائماً حول اقتسام منزل والدهم، فبينما يرى أحد الإخوة بقاء المنزل للجميع دون تقسيم، لتقيم به أخواته عند الحاجة، يرفض أخ آخر ذلك، ويصر على اقتسام المنزل دون احتساب أية أنصبة للبنات. وتحذر من أنه إذا لم تنل المرأة حقها في الميراث فلن يلتفت إليها أي قريب عند حاجتها له، ولن يستقبلها أي أخ في منزله. تحذيرات فاطمة لم تنته، حيث تؤكد أن هناك نساء يصطحبهن إخوتهن إلى المحاكم للتوقيع على "التنازل" دون معرفة منهن بحقيقة ما وراء طلب التوقيع، ليكتشفن في النهاية أنه تم غبنهن وسلب حقوقهن. المرأة.. صاحبة القرار أما الشيخ أحمد حسن عسيري نائب قبائل الرفقتين ربيعة ورفيدة في عسير فيرى أن مصير "ميراث المرأة" بيدها وحدها.. يقول: إن المرأة تأخذ نصيبها في الميراث إذا طلبته، ولها الحق في بيعه بثمن مناسب إن أرادت، أو إهدائه لأسرتها إذا اختارت التنازل لأحد أقاربها، نافياً إجبارها على شيء من ذلك، إلا إذا فعلته "حياءً". يجزم بأن المرأة تتنازل عن ميراثها برغبتها، وعندئذ تكون مكفولة من أهلها وزوجها وأولادها، مؤكداً أن الكثيرين يؤمنون بحق المرأة في الميراث، لكن تنازلها يعود إلى مدى غناها عن المال، خاصة إذا كان أولادها صالحين، وأهلها وزوجها مغدقين عليها، ويتميزون بحسن التعامل معها، ويزورونها ويكرمونها، ولذا تعطيهم ميراثها بنفس طيبة. ويستشهد بتجربته الشخصية، حيث تنازلت أخواته عن حقهن في ميراث والدهن في البيوت والأراضي برضاء تام، الأمر الذي جعله يعوّضهن بمبلغ 100 ألف ريال، ويقيم لهن حفل تكريم، مؤكداً أنهن تحت رعايته، وأن ماله ملك لهن. ويذكر أنه في قبيلته ـ التي يتجاوز أفرادها أربعة آلاف نسمة ـ لم يسبق حدوث مشاكل أو قضايا بسبب هذا الموضوع، بل يوجد تقارب ومودة. فقدان مودة العائلة يلفت الشيخ سعد بن ناصر بن راسي القحطاني شيخ قبائل سنحان قحطان إلى أن منطقة عسير تختلف عن غيرها من المناطق في قسمة الميراث، فقد جرت العادة على أن المرأة لا تـُقاضي إخوتها الذكور في ميراث والدها، ومن العيب الاجتماعي أن تفعل ذلك، حتى لا تنقطع علاقتها بهم، ولا يقل تقديرها واحترامها في العائلة، خاصة في مجالي الزيارات، ودعوتها لحضور المناسبات والمشاركة فيها، فالنفوس تكون غير راضية، والعلاقات لا تكون بنفس الدرجة من التقارب عندما تتنازل لتكسب مودة العائلة. القحطاني لا يخفي حقيقة أن نسبة لا تقل 10% من النساء يطالبن بميراثهن، بينما 90% منهن يتنازلن عن حقوقهن، فالعادة جرت في المنطقة على أن تبادر غالبية النساء بالتنازل عن ميراثهن لإخوتهن. أما تجربة شخصية، فقد تنازلت بنات عمه له عن حقهن في ميراث والدهن دون مقابل، واستخرجن "صكا شرعيا" بذلك، مشيراً إلى أن الأعراف فرضت أن يتم عمل مأدبة بهذه المناسبة يُعلن فيها أن "فلانة تنازلت عن حق والدها فبيّض الله وجهها". يتبع.