تابع طرق "ملتوية" للتنازل تضارُب الوضع الفقهي والقانوني مع الواقع في قضية ميراث المرأة هو أهم ما يكشف عنه المستشار القانوني المحامي عبدالعزيز فؤاد عسيري، مؤكدا أن التنازلات موجودة بالفعل، وتتم بطرق ملتوية في أحيان كثيرة، فتارة تأخذ شكل بيع "صوري" أو "هبات"، وتارة أخرى يتم إغفال النساء عند حصر الورثة، ليتقاسم الرجال التركة دونهن. كما توجد حالات يتم فيها إدراج المرأة في حصر الورثة، لكن التركة تقسم "عمليا" بين الرجال فقط ويقال: "فلانة مع فلان" من إخوتها دون أن يُحدّد لها نصيب، ويعلّل ذلك بأن المرأة ضعيفة، ولا تستطيع القيام على مالها أو استثماره. المحامي عسيري يرصد أسبابا أخرى لحرمان المرأة من ميراثها، منها أن تكون متزوجة بشخص من خارج العائلة، والعرف الاجتماعي يعيب على المرأة أن تأخذ من مال موّرثها شيئا، وهي في عصمة رجل آخر.. وأحياناً يشجعها زوجها على التنازل لأنه ليس بحاجة إلى مال أهلها، ومن العيب أن يقاسم أصهاره أموالهم، وربما يصل الأمر إلى تعهد الزوج لزوجته بتعويضها عن حقها الذي تتنازل عنه لإخوتها. تكثيف التوعية الفقهية سبب آخر يلفت إليه المحامي عسيري، وهو خوف العائلة من دخول زوج البنت وريثاً في أملاكهم من الأراضي، حتى لا يتصرف هذا الزوج في مالها ثم يطلقها، فتجد نفسها خالية الوفاض من تركة مورثها، ولذا يظلّ إرثها لدى أهلها حتى تموت. ولا يغير في هذا الوضع أن تكون المرأة في أمسّ الحاجة إلى الكساء، أو أشياء لا تستطيع شراءها بينما نصيبها في الإرث ـ الذي لا تملك التصرف فيه ـ يساوي مئات الآلاف من الريالات. أمر آخر يضاعف معاناة النساء في هذا المجال، حيث يتصرف الرجال في التركة بعد وفاة الموّرث بوكالة من المرأة لأخيها أو عمّها، فيبيع ويقايض ويرهن كما يشاء، وعندما تطلب المرأة نصيبها يقول لها هذا نتاج جهدي وتعبي، ولا يطلعها إلا على مزارع قديمة أو بيوت مندثرة، ويُخفي كثيراً من التركة بحجة أنه اشتراه.. وغالباً ما تكون المرأة جاهلة أملاك مورثها، فبعضهن يفارقن منزل آبائهن في سن دون العشرين.. فماذا عسى إحداهن أن تعرف بعد 20 أو 30 عاما؟. المحامي عسيري لا يتوقف عند اتهام العادات والتقاليد بالمسؤولية عن استمرار ظلم المرأة، وإنما يُطالب بتكثيف التوعية الفقهية بحقوق المرأة، وبيان المحاذير الشرعية المتصلة بالذمم، مشددا على أهمية وعي النساء أنفسهن بحقوقهن، وتمسكهن بها، وكذلك أهمية دور القضاة عند اقتسام التركة لبيان الحقوق وتأكيدها. كما يطالب بعدم تصديق أي تنازل إلا بعد تحرّي الإنصاف، والتأكد من إجمالي التركة. عادات جاهلية.. مرفوضة الدكتور غازي الشمري الباحث في شؤون الأسرة لا يجد حرجا في ربط القضية بما يعتبره "عادات جاهلية". يقول: العصر الجاهلي كان يسلب المرأة حقوقها إذا مات عنها زوجها، وكان الذكور يأخذون أموالها، ويضعون على بيتها "علما أبيض" يرمز إلى عدم وجود حقوق لها، وأنها لا تُورّث، ولا تتزوج إلا بإذن إخوة زوجها المتوفى. ويذكر الشمري أن امرأة شكت للنبي صلى الله عليه وسلم حرمانها حقها من الميراث، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: " لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا" (النساء/7). وعلى العكس مما ذهب إليه كثيرون من أن تنازل المرأة عن حقها يضمن لها السعادة العائلية، يحذر الشمري من أن سلب المرأة حقوقها يترك بها أثرا نفسيا سيئا، ينعكس سلباً على سعادة بيتها، وتصبح عديمة الثقة بنفسها، ويضعف دورها في تكوين شخصيات أطفالها، فينتج جيل مهزوز لا يقدر على خدمة وطنه، وحماية مصالحه. ظلم وتضييع للحقوق في تصديه لهذه القضية، يُفرق الدكتور عبدالواحد المزروع عضو هيئة التدريس في كلية المعلمين بالدمام بين أمرين: - الأول: تنازل المرأة بطيب نفس ودون أي إكراه مادي أو معنوي "كالحياء والخجل" فهذا حلال وجائز. - الثاني: حصول إكراه من أي نوع، أو النزول عند العادات والتقاليد دون النظر إلى رغبة صاحبة الشأن، وهذا حرام، لمصادمته الشرع، ومن يفعله يأثم، ويقع في أمر عظيم هو ردّ الشريعة، وعدم تطبيقها، والأخذ بحكم الجاهلية، لقوله تعالى: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (المائدة/50). ويبرز الدكتور المزروع اتفاق علماء الشريعة الإسلامية على أن تقديم "العادات" على الشرع من نواقض الإسلام. يقول: إذا قدم المسلم العادات معتقدا أنها أفضل من الشريعة، واستحسن فعلها فإن ذلك فيه ردة عن الإسلام والعياذ بالله. أما مجرد التطبيق للعادات مع اليقين بأن حكم الله أفضل، ولكنه فعل ذلك نزولاً عند العادات فإنه يقع في "معصية" كما يرى بعض أهل العلم. المزروع يشدد على أن سلب المرأة حقها في الميراث يمثل إضرارا بالغا بها، فهي صاحبة حق شرعي أصيل في الميراث مثلما لأخيها حق شرعي فيه، ولا يجوز للأم إجبار بناتها على التنازل عن ميراثهن لإخوتهن الذكور، ذلك أن من ألزم مسلما بالتنازل عن حقه دون مقابل فهو آثم، لما في ذلك من ظلم وتعسّف وتضييع للحقوق. ولا يجوز أن يتم ذلك بدعوى "المقايضة" لأن لها شروطا، أهمها أن تكون برضا المرأة، وبثمن عادل يساوي قيمة الأرض، وألا يكون الأمر مجرد "ترضية" شكلية.. فإذا كان الثمن بخسا ولا يساوي قيمة الأرض، فهو أمر محرم. سؤال يطرحه المزروع على "أمهات" عسير: لماذا لا ترضى المرأة أن يطلب أحد من أبنائها الذكور التنازل عن أراضيهم بثمن بخس وفي الوقت نفسه ترضى ذلك لبناتها؟. ويلفت إلى أن "المبايعة" بثمن بخس تبطل البيع فكيف إذا كان الأمر يتصل بالتنازل عن الحقوق، مشددا على أنه يجوز للمرأة أن تسترجع أموالها إذا أجبرت على التنازل انتهى