القاعدة الثامنة: أنهم لا يعارضون النصوص بعقولهم ولا بآرائهم ولا بأذواقهم ولا بقول رجال مثلهم، لقوله تعالى:{ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب }، وقوله:{ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا }، وقوله:{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }، وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( إن الله لا ينزع هذا العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يُسْتَفْتَوْن فيفتون برأيهم، فيَضلون ويُضلون ) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، وعن علي موقوفا:" لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه "رواه أبوداود، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال:" اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ. فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَىَ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا، وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بدية الْمَرْأَةِ عَلَىَ عَاقِلَتِهَا، وَوَرّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النّابِغَةِ الْهُذَلِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ، وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يطَلّ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إِنّمَا هَذَا مِنْ إخْوَانِ الْكُهّانِ" مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الّذِي سَجَعَ."
القاعدة التاسعة: أن ظهور المسلمين وصلاح أحوالهم مربوط بأمرين: وهما العلم النافع والعمل الصالح، لقوله تعالى:{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } الآية، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ عَزّ وَجَلّ مِنَ الْهُدَىَ وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً. فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيّبةٌ. قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ. وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ. فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ. فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا. وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَىَ. إِنّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً. وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ )، وعن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: ( ذاك عند أوان ذهاب العلم ). قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقرئه، ويقرؤه أبناؤنا، ويُقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة. قال: ( ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعلمون بشيء مما فيهما ) رواه أحمد وابن ماجه، وفي حديث عدي بن حاتم: (إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى ) الحديث رواه أحمد والترمذي وغيرهما، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:" لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميراً خيراً من أمير، ولا عاما أخصب من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا، ويجيء قوم يفتون في الأمور برأيهم ).
القاعدة العاشرة: أنهم يعتقدون أن الجماعة أصل من أصول دينهم، لقول الله تعالى:{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا }، قال ابن مسعود في تفسير الآية:" حبل الله الجماعة " رواه ابن جرير، وفي حديث الافتراق لما سئل عن الفرقة الناجية قال : ( الجماعة )، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تُناصحوا من ولاه الله أمركم؛ ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال )، قال الشافعي رحمه الله:" فإن قلتَ: ما معنى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في لزوم جماعته؟ قلتُ: لا معنى له إلا واحدة. فإن قلت: فكيف لا يحتمل إلا واحدة ؟ قلتُ: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم أبدان أقوام متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة في المسلمين والكافرين الأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم ومن خالف ما تقول به جماعتهم فقد خالف جماعتهم التي أُمر بلزومها"، فقال أبو شامة رحمه الله:" حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة المراد لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا ننظر إلى كثرة أهل الباطل مِن بعدهم ).
القاعدة الحادية عشرة: أنهم يعتقدون أن أعظم أسباب الافتراق هو تشيع وتحزب المسلمين إلى طائفة أو جماعة أو شخص غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الكرام، لقوله تعالى:{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء } قال ابن كثير:" الظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق"، وقال تعالى:{ ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون }، قال ابن كثير:" وهذه الأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه، كما روى الحاكم في مستدركه أنه سئل عن الفرقة الناجية من هم فقال: ( ما أنا عليه وأصحابي ) اﮬ. وفي حديث الحارث الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة؛ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن ادعى دعوى الجاهلية؛ فإنه من جثا جهنم ). فقال رجل:" يا رسول الله، وإن صلى وصام". قال: ( وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله ) رواه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي حسن صحيح. وقيل لابن عباس: أنت على ملة علي أو على ملة عثمان. فقال:" بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
القاعدة الثانية عشرة: أنهم يعتقدون أن البيعة لا تكون إلا لإمام مسلم بايعه أهل الحل والعقد، لقوله تعالى:{ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر ) قالوا: فما تأمرنا. قال: ( فوا ببيعة الأول وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم ) رواه مسلم، وعن عدي بن حاتم قال: قلنا يا رسول الله، لا نسألك عن طاعة من اتقى ولكن من فعل وفعل – فذكر الشر – فقال: ( اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا ) رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ) رواه الترمذي، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمِرَ بمعصية فلا سمع ولا طاعة) رواه البخاري.
القاعدة الثالثة عشرة: أنهم لا يَدْعُون إلى الخروج على الولاة الظلمة والفسقة، بل يَذمّون ذلك ويذمون على من خرج على الولاة ديناً ودنيا، لقوله تعالى:{ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( سيكون بعدي أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع ) قالوا: أفلا ننابذهم بالسيف. قال: ( لا ما أقاموا فيكم الصلاة ) رواه مسلم، وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( يكون بعدي أئمة، لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) قلت: كيف أصنع إن أدركت ذلك. قال: ( تسمع وتطيع للأمير وإن أخذ مالك فاسمع وأطع ) رواه مسلم، وعن عرفجة الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:[ ( إنها ستكون هناة وهناة، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهم جميع فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان ) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية ) رواه البخاري ومسلم]٭. وبالجملة العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمر يكون لطلب ما في ايديهم من المال والإمارة، وهذا قتال على الدنيا؛ ولهذا قال أبو بَرْزَة عن فتنة ابن الزبير وفتنة القراء مع الحجاج وفتنة مروان في الشام : هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء إنما يقاتلون على الدنيا، وأما أهل البدع كالخوارج فهم يريدون إفساد دين الناس فقتالهم قتال على الدين. والمقصود بقتالهم أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله؛ فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا ونهى عن ذاك.