عرض مشاركة واحدة
قديم 03/07/11, (06:35 AM)   المشاركة رقم: 18
المعلومات
الكاتب:
جلال الدرعان
اللقب:
مشرف منتدى الخواطر والقصص

البيانات
التسجيل: 17/12/10
العضوية: 6107
الدولة: الجبيل
المشاركات: 1,418
بمعدل : 0.29 يوميا
معدل التقييم: 43
نقاط التقييم: 541
جلال الدرعان مـــبــــدع بـــلا حـــدودجلال الدرعان مـــبــــدع بـــلا حـــدودجلال الدرعان مـــبــــدع بـــلا حـــدودجلال الدرعان مـــبــــدع بـــلا حـــدودجلال الدرعان مـــبــــدع بـــلا حـــدودجلال الدرعان مـــبــــدع بـــلا حـــدود


الإتصالات
الحالة:
جلال الدرعان غير متصل
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : جلال الدرعان المنتدى : منتدى التاريخ والتراث العربي
افتراضي رد: دراسة عن قبيلة عنزة Anza tribe bin Wael

رحلة يوليوس أويتنج إلى الحجر-العلا

من تيماء إلى الحجر- العلا

الخميس 13/3/1884م

كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب حينما انطلقت قافلتنا الصغيرة تاركة المدينة خلفها، لقد كنا أربعة أشخاص، ونمتطي أربعة جمال هوبر وأنا، والخادم محمود، والدليل نومان، وبينما كنت أتمايل على ظهر راحلتي خالجني شعور ينم عن الفرح والسرور، وحين تركنا آخر بيوت المدينة خلف ظهورنا، وبدأنا نظرب في الصحراء وذلك العالم الفسيح شعرت بانتفاخ صدري من جراء التفكير بأنني مع كل خطوة إلى الأمام أتقدم نحو الهدف الحقيقي الذي قدمت من أجله، نعم سأصل خلال الأيام القادمة الأماكن التي طالما تطلعت إلى رؤيتها، تلك هي مقابر الحجر المنحوته في الصخر، وأطلال بلدة العلا القديمة. لقد جعلني هذا الشعور المبهج لا أبالي حينما
قال لنا نومان: إننا سنصل بعد يومين من السير الجاد إلى منطقة غير آمنة، حقا لقد كنت في تلك اللحظة مشحونا بطاقة لا تقبل المزيد ومستعدا لتحمل الصعاب، واجتياز الأخطار مهما كان نوعها. امتد طريقنا من حوض تيماء التي يطل عليها جبل غنيم من الجهة الجنوبية الشرقية، آخذا بالارتفاع التدريجي حتى 100 متر تقريبا، إلى ذلك السهل المنبسط بعرض كيل واحد تقريبا، وطول يتراوح ما بين ثلاثة الى أربعة كيلومترات، والمكتظ بأكوام الأحجار المصفوفة خلف بعضها البعض، وهناك يمكن للمرء أيضا رؤية بيوت صغيرة مبنية من الحجر بشكل مربع ومنخفض، وهي تشابه تلك التي رأيناها في مدينة الموتى شوهر. وتمنيت كثيرا لو أن أهالي تيماء أخبروني عن هذه المقابر القديمة فربما تمكنت من زيارتها بدلا من تضييع الوقت في تيماء، فمن المؤكد أن في هذا المكان دلائل وإشارات عن سكان تيماء القدماء. على أي حال لم يكن في وسعي سوى إلقاء سؤال على نفسي مؤداه: هل من الممكن أن يكون في هذه المقبرة شاهد قبر أو حجر منقوش؟ في الحقيقة كنت أتمنى لو نزلت من راحلتي، ووقفت عن كثب على هذه القبور، ولكن هوبر رفض أي خروج عن مسار الرحلة، فكان لزاما علي أن أقبل تعاليمه على مضض، استمرت مسيرتنا خلال ظلام الليل، وبعد ساعة من ظهور القمر أي حوالي الساعة التاسعة أقمنا مخيمنا في منطقة آمنة تسمى الخبو.

الجمعة 14/3/1884م
انطلقنا مع شروق الشمس، واستمر سيرنا مدة أربع ساعات متتالية عبر سهل اللبيدة المكتظ بالصخور الرملية الصغيرة والمخيفة في الوقت نفسه، حيث أخذت تلك الصخور أشكالا عجيبة بفعل هبوب الرياح الرملية التي أدت نتيجة لقوتها إلى تآكل طبقات الصخور الرقيقة، بينما تحولت القاسية منها إلى صفائح وأشكال تبعث على الغرابة.

عند الظهر مررنا بمنطقة الدغش التي رسم على صفحات جبالها البنية العديد من أشكال الحيوانات والكتابات الثمودية، ولكننا لم نتمكن من البقاء هناك طويلا بسبب خطورة المنطقة، كما أن شدة الرياح جعلت من الصعب استنساخ تلك الكتابات، وعند غروب الشمس ومع تزايد شدة الرياح اقتربنا من منطقة يوجد فيها موقعان للماء: أحدهما يتكون من 12 بئرا ويسمى رحيان، والثاني يقع خلف جبل رسوبي يسمى العشر، وهو عبارة عن بئر لها ثلاث فتحات، وتعلوها زرانيق تسمى الثمايل، وهنا استرحنا لإعداد بعض الطعام، ولكي تتمتع الجمال بالعشب الوفير، وحيث كان من الخطورة بمكان المبيت بالقرب من موقع المياه، لذلك قررنا أن نواصل السير خلال الليل عدة ساعات، حيث امتد أمامنا أحد المنخفضات المكون سطحه من الأحجار الرملية الملساء، وخلال وقت قصير ازدادت قتامة الليل، فالقمر لم يظهر إلا بعد التاسعة والنصف، على أي حال يمكن للمرء أن يتوقع- كما قيل لي في حائل- أن تكون تلك الصفائح الجبلية الملساء والمتعامدة مكتظة بالنقوش والرسوم الصخرية، وحيث لم يكن بمقدوري عمل أي شيء حاولت أن أقنع نفسي بافتعال بعض الأسباب الآتية:

1- عدم توافر الضوء خلال ذلك الظلام الدامس.
2- عدم استحسان نزول المرء في المناطق الخطرة.
3- يمكن عد التعب الذي أصابنا من جراء سير اثنتي عشر ساعة واحدا من هذه الأعذار.

وعند الساعة الثانية عشرة ليلا، نزلنا عن رواحلنا، وتجمعنا مدة نصف ساعة حول نار هادئة، كي لا يراها أحد، ويكتشف مكاننا، ثم استلقينا ونحن متعبون للنوم.

السبت 15/3/1884م
قبل شروق الشمس بنصف ساعة كنا نجلس بالفعل على أشدة الجمال، وبينما كان طريقنا ينحدر عبر ممر واسع إلى الأسفل شاهدنا فجأة إلى اليسار أمامنا بدويا يحمل بندقية، وحينما ناديناه لم يتوقف، بل صعد إلى قمة أحد الجبال وأشار بيده نحو الشرق، فقمنا بتجهيز السلاح، وأرسلنا في الوقت نفسه نومان على قدميه بدون سلاح، لكي يخبره بحسن نوايانا، وقد اتضح أنه من معارف نومان، وينتمي إلى قبيلة الفقراء تلك القبيلة التي لم تخضع لسلطة أمير حائل إلا قبل وقت قصير، ولا يزال ولاؤهم له غير موثوق به، وفي محاولة منا لتشجيعه على النزول وعدم إرهابه انطلقنا في هدوء نحو الأمام، حيث نزل مع نومان ليلحقا بنا، ثم سار معنا مسافة قصيرة، وقد كان يرتدي ثوبا ومعطفا جلديا وغترة ويحمل بندقية من نوع (لونتن)، وبدلا من الرمح استعاض بخطاف خشبي. بعد ذلك بوقت قصير شاهدنا من خلال الصخور ومن مسافة 3- 4 أكيال في اتجاه الشرق خيام قبيلة الفقراء وسط قطيع من الإبل يزيد عددها على الألف، وما هي إلا برهة من الوقت حتى ظهر علينا ثلاثة منهم لدعوتنا إلى النزول عندهم، ولكننا رفضنا تلك الدعوة شاكرين. وبعد . أن أشبعوا فضولهم وتمكنوا من رؤية أسلحتنا، انصرفوا بعد ربع ساعة تقريبا، وهم بلا شك نادمون على عدم قدرتهم على السطو علينا، وسلب هؤلاء الموسرين كما يعتقدون، ولم يكن يمنعهم من ذلك سوى مرافقة نومان لنا الذي ينتمي إلى قبيلة شمر المتآخية مع قبيلتهم. وحيث إننا نملك من الأسباب ما يخولنا بعدم الثقة بهم اضطررنا من أجل إيهامهم لسلوك طريق غير مباشر يتجه نحو اليسار، وينحدر بقوة نحو الأسفل آخذا في الارتفاع مرة أخرى عبر تل رملي في سفح أحد الجبال، ثم سرنا مدة خمس ساعات متتالية خلال صحراء ترتفع جبالها إلى حوالي 150 مترا، وهي بمثابة منطقة جبلية رائعة تكثر فيها المراعي الوفيرة بالأعشاب، ولو قدر لهذا المكان أن يكون في أوروبا لأصبح مكتظا بالسياح. على أي حال لقد ضيعنا هنا الكثير من الوقت، بسبب مسيرنا عبر طريق خاطئ، مما اضطرنا إلى النزول من خلال منخفض خطير إلى أحد الشعبان، وبينما كانت الجمال تهبط عبر ذلك المنخفض نزل رفاقنا من على ظهور جمالهم حذرا من السقوط، أما أنا بوزني الذي لا يتعدى 99 رطلا فقد تجرأت على البقاء فوق ظهر الناقة، وحينما وصلت إلى الأسفل كان الشداد والأمتعة قد مالت نحو الأمام مما اضطرني إلى إنزالها وإعادتها من جديد بصورة معتدلة على ظهر الناقة.

كنا نسير عبر تلك الشعاب الموحشة والمملوءة بالرمال المتلألأة بألوانها الذهبية الصفراء والأسلحة بأيدينا على أهبة الاستعداد، ولم نكن نشاهد فيها سوى بعض الغربان الجائعة التي كانت تحوم فوقنا بين الفينة والأخرى، وهي تنعق بأصواتها المفجعة كما لو كانت تطمع بنقر أعين أحدنا. منذ غروب شمس أمس لم نأكل شيئا قط، لذلك سعدنا كثيرا حينما قال لنا نومان، ونحن نخرج من الشعيب، هنا ليس هناك ما يخشاه المرء، فكان بمقدورنا النزول، وعمل قرص جمر (خبز)؟ لنأكله مع ما بحوزتنا من تمر. وفي هذه الأثناء بشرتنا الطيور الكثيرة هناك بقربنا من الحجر والعلا اللتين اشتهرتا بكثرة طيورهما، وفي حوالي العصر انطلقنا عبر ذلك السهل الذي تظهر في وسطه قلعة الحجاج الحديثة في مدائن صالح بنخيلها الثلاث، ومن خلفها إلى اليسار تبدو الصخور المخروطية الشكل والمقابر وغيرها من بقايا مدينة الحجر القديمة.

استقبلنا في القلعة بترحاب نائب قائدها المدعو حميد، والحاج مبروك والحاج حسن والحاج مصطفى، وهم من المغرب العربي وبالتحديد من الجزائر وتونس وطرابلس، أما قائد القلعة المدعو محمد علي الذي سطا على داوتي أثناء إقامته هنا، وسلب منه بندقيته فقد كان في أثناء ذلك في دمشق. إضافة إلى أولئك كان هناك أيضا بدوي يدعى محمد الأزرق من قبيلة الفقراء. بعد ذلك قدم للجمال العلف الوفير، وذبح لنا. أما أنا فقد كنت أتحرق شوقا لرؤية تلك المقابر المنحوتة في الصخر، والتي لا يبعد بعضها عنا سوى بضع مئات الخطا. وقد كنت قد قرأت كل ما جمعه الرحالة عنها من معلومات ولم يفتني شيء، سوى أنني لم أتنبه للخط و اللغة التي كتبت بها النقوش هناك. لقد ذهبت إلى الموضع برفقة شخصين لحمايتي، وقد شعرت بارتياح يفوق الوصف حينما عرفت أن تلك النقوش كتبها الأنباط الذين تبؤوا مكانة تجارية كبيرة في العالم القديم. لم يمض سوى أقل من نصف ساعة حتى كنا قد انتهينا من جولتنا، وعدنا والشمس تميل نحو الغروب إلى فناء القلعة التي كنا نسمع من داخل حجراتها أصوات بكاء الأطفال وثغاء الضأن ومأمأة التيوس الجائعة. وبينما كنا ننتظر قدوم الأكل ظل أحد أقرباء الحاج مصطفى، وهو من أتباع الطريقة السنوسية يتسلى بملاعبة سبحته بين أصابع يديه محركا إياها مئات المرات بالشكل والأسلوب نفسه، وخلال الليل عاود الكرة مرتين مع ذلك التسبيح الذي اعتبرته عادة سيئة ونوعا من العبث، وهنا لم يكن أمامي بد من الثناء على مسابح أهل التبت الأقل إزعاجا.

بسبب الحرارة والثرثرة حول النار، وكذلك فقدان الأمل بأن يتزحزح الحاج مصطفى من مكانه لم أفرش فراشي في قاعة الأقواس التي اتخذت كديوان (مجلس)، ولكنني فرشته في ممر القلعة.

وفي هذه المنطقة ينمو نبات الطرثوث بكثرة، وهو عبارة عن نبات غليظ ذي جذور عميقة تتخللها خيوط ذات ألوان أرجوانية غامقة، ولها سيقان يصل ارتفاعها قدمين.
الأحد 16/3/1884م
انطلقنا من شروق الشمس دون أن نأخذ ذلك السلم الذي ظللنا نسحبه معنا طوال تسعة أشهر متتالية، حيث رأى هوبر أن لا ضرورة له في العلا. كان يرافقنا خلال هذه المسيرة الحاج حسن والحاج مصطفى ومحمد الأزرق، وبدوي آخر انتظر مدة ليرافقنا خلال الطريق الذي يتطلب ثلاث ساعات من المسير كيلا يتعرض بمفرده للسلب. ونظرا لخشيتنا من أن يكون أفراد قبيلة بلي قد لاحظوا وصولنا في عصر يوم أمس قلعة مدائن صالح اخترنا الذهاب عبر طريق غير مباشر ويزيد مسافة ساعة عن الطريق المعتاد، حيث سرنا عبر شعيب يمكن للأطلال الموجودة فيه أن توفر مخبأ مناسبا للصوص وقطاع الطريق، ثم اتجهنا بشكل قوس نحو الشرق، وفي هذه الأثناء كان مرافقونا يتقدمون أمامنا حاملين بنادقهم قبل كل مرتفع لكي يراقبوا الطريق ويتأكدوا من أنه آمن. بعد أن تجاوزت الساعة العاشرة وصلنا والسعادة تغمرنا نهاية الشعيب الذي اجتزناه كما ينبغي. وقد قيل لنا فيما بعد: إن مجموعة من الغلمان ترصدوا ليلة البارحة منتظرين قدومنا كي يهجموا علينا، ولكنهم لم يوفقوا ولله الحمد. وبعد ربع ساعة لمحنا بساتين بلدة العلا تتوسطها أكوام حجرية تمثل أطلال المدينة القديمة، أما على صفحات الجبال الواقعة على يسارنا فكان يوجد بعض المقابر المنحوتة في الصخر تعلوها النقوش القديمة. في حوالي الساعة العاشرة والنصف وصلنا بلدة العلا الواقعة في واد منخفض تحيط به جبال الصخور الرملية العالية من كل جهة. والبلدة غنية بالنخيل وتكثر فيها المياه، لذلك فهي مرتع للحمى، كما يكثرفيها الذباب بشكل يفوق التصور، وذلك نتيجة لضيق بيوتها والتصاق بعضها ببعض، ومن الطبيعي والحال كذلك أن تكثر فيها الأتربة والأوساخ، أما منازلها فتتكون من طابقين يصل المرء الطابق الثاني من خلال سلم في القهوة (الديوان)، ومنه يصعد المرء إلى سطح صغير. وفي وسط البلدة تقع هضبة صخرية شيدت فوقها قلعة قديمة، وحينما يصعد المرء إليها سيرى أن بيوت المدينة مبنية من ثلاثة طوابق، الأسفل بمثابة الطابق الأرضي، وفوقه الطابق الثاني، ثم السطوح التي تبدو كأنها متلاصقة مع بعضها البعض وخاصة أن أكثر أزقة البلدة مسقوفة، أما البيوت فيتم بناؤها عادة من الحجارة التي من بينها أحجار مهذبة تعلوها الزخارف والنقوش مما يؤكد أن هذه الأحجار تعود إلى العصور القديمة أعيد استخدامها في بناء المنازل الحديثة، وقد تمكنت هناك من بصم ونسخ اثني عشر نقشا كلها حميرية، ماعدا نقشا واحدا فهو نبطي.
يتراوح عدد سكان البلدة ما بين 1000- 1200 نسمة من بينهم العديد من السود، وهو أيضا لون نائب الأمير المدعو سعيد، ومن كبار رجال البلدة هناك القاضي موسى، وشخص يدعى عبد الله وهو مولود في دمشق ويمارس التجارة، ثم شخص كثير القراءة حدثني عن حملات هرقل وعن القياصرة والقسطنطينية. ويلاحظ المرء هناك أن عادة سكان البلدة السود المتمثلة بولعهم بالزينة والنظافة قد أثرت في لباس الرجال والنساء هناك، فالرجال يرتدون ثيابا زرقاء لا تختلف عن ملابس النساء سوى أن لها فتحة طويلة من الأمام ذات أزارير نحاسية، ويرتدون فوقها عباءة ذات ألوان زرقاء وبيضاء ومخايطها حمراء، أما النساء فيزين أنوفهن وآذانهن بحلقات معدنية رائعة، بعضها تدلى منها قطع العملة، وغطاء رؤوسهن مزين بقطع كثيرة من الصدف. أما بالنسبة إلى السكان فهم في العادة وحسب المستطاع مسلحون، نظرا لخوفهم من أفراد قبيلة بلي الذين يترصدون أمام أبواب البلدة مباشرة متحينين الفرصة لسلب كل مقتنياتها، حقا لقد سمعنا اليوم عن امرأة ذهبت عند الساعة الثالثة عصرا لتحضر بعض العلف من صدر أحد بساتين النخيل، وهناك سلب منها كل شيء حتى ثيابها، وآخر تسبب كيس التمر الذي يمتلكه بقتله ضربا حتى الموت من قبل قطاع الطرق، ليس ذلك فحسب، فقد حدثني هوبر أنه رأى خلال زيارته الأولى للعلا أحد أبناء شيوخ البلدة، والبالغ من العمر اثني عشر عاما يحمل سيفه ويلعب مع أقرانه أمام الباب لعبة تسمى (13 خطوة)، وحينما غابت الشمس انصرف الأطفال إلى بيوتهم، أما ابن الشيخ فقد تأخر عنهم بضع خطوات، وعلى حين فجأة هاجمه غلامان أملا في أخذ سيفه، وحيث كان ممسكا به في يده، قام أحدهم بعض إصبعه حتى انفصل اللحم عن العظم، وسلبوا منه السيف، وجردوه حتى من ملابسه.

فيما يخص الضريبة فليس هناك من يدفعها سوى سكان البلدة نفسها، أما أفراد قبيلة الفقراء القاطنون إلى الشرق منها، فهم منقسمون إلى جزأين: جزء يدفع الضريبة. والقسم الآخر لا يزالون غير خاضعين لسلطة الأمير، أما أفراد قبيلة بلي القاطنون غرب البلدة فسيتوجه الأمير لاحقا لإخضاعهم، بعد أن أتم إخضاع جيرانهم الشماليين بني عطية،
وبالنسبة لأفراد عشيرة الأيدا المنتمين لقبيلة بني وهب القاطنين جنوب المدينة فقد تم نهبهم، واخضاعهم قبل عامين.

الترحال، فبعضهم يحاولون منذ وقت طويل الرحيل إلى سورية وبالذات إلى دمشق، وبعضهم الآخر إلى إستنبول. لذلك وجه إلينا شخص طاعن في السن منهم، ونحن جالسون في القهوة سؤالا عما إذا كنا سنواصل مسيرتنا إلى إستنبول، وحينما قلنا له ربما بعد سنة من الآن، رد فورا بصورة ساذجة قائلا سترون بالتأكيد ابني هناك، وسأعطيكم رسالة تحملونها إليه. عندما اقتربنا من المنطقة السكنية أسرع إلينا كل الفضوليين من أبناء البلدة، حاملين بنادقهم، فأحاطوا بنا من الأمام ومن الخلف، مما جعلنا نسير خلال الأزقة المسقوفة والضيقة في زحام شديد. وبعد ذلك نزلنا في فناء صغير لا يكاد يتسع لجمالنا الأربعة، ثم قدمنا التحية إلى عامل الأمير في العلا المدعو سعيد ذو البشرة السوداء، وهو شخص مختلف تماما عن العنقري البخيل في تيماء، والذي لم نحصل منه على شيء قط، بل إنه كاد يميتنا جوعا. وبينما حملت أمتعتنا إلى منزل آيل للسقوط، ذهبنا نحن إلى الديوان الذي كان في تلك الأثناء مكتظا بالضيوف، وبعد أن شربنا القهوة صعدنا الدرج إلى أعلى، حيث قدم لنا هناك الزبد والتمر الجيد، وفي أثناء ذلك وقف أحد الخدم ليقوم بطرد الذباب من أمام أفواهنا، ولكن على الرغم من ذلك سقط العديد منها في اللبن الذي أحضر قبل خمس دقائق فقط.

كان سعيد ينتظرنا منذ وقت طويل، لذلك فقد سر بقدومنا، وكان على استعداد دائم لخدمتنا، حيث جهز فورا كل ما طلبناه من مؤونة للرحلة. وبعد ظهر هذا اليوم صرح لي هوبر بخبر ظل يؤجله مدة طويلة دون سبب مقنع، مما جعلني أفاجأ به، ذلك هو أن الأمير لا يرغب في عودتي إلى حائل. لذلك فإنه يريد أن ينفصل عني، ويعود بمفرده إلى هناك من أجل إحضار الأشياء التي تركناها قبل مدة في تيماء. على أي حال يبدو أن غانم بن باني أخبر حمودا بتصريحاتي الغاضبة، مما سبب غضب حمود مني، وجعله يحاول بكل ما يستطيع أن يوعز للأمير بأن يطردني بطريقة مهذبة، ولو أن هوبر أخبرني بذلك حينما كنت في حائل لما فوجئت من ذلك، ولتمكنت من أخذ ممتلكاتي التي تركتها هناك معي في حينه. والآن ينوي هوبر الاتجاه من هنا إلى خيبر مرورا بنواحي المدينة إلى جدة، حيث نلتقي هناك مرة أخرى، بينما أذهب أنا من هنا إلى الحجر (مدائن صالح) برفقة شيخ من قبيلة بلي الذي سيحضر إلي بعد حين، وهناك أقوم باستنساخ النقوش، بعد ذلك أعود إلى العلا، ثم أتجه برفقة ذلك الشيخ نحو الغرب عبر مناطق سكنى قبيلة بلي إلى الوجه، ومن ميناء تلك البلدة الخاضعة للسلطة المصرية ستسنح لي بالسفر مع إحدى البواخر إلى جدة، ومن هناك ربما أتمكن من القيام برحلة إلى الطائف، أو أعود مباشرة عبر السويس إلى بيروت، أما هوبر فكان يريد أن يعود من جدة إلى حائل، ثم عبر العراق إلى دمشق، ولكن ذلك كله كان من أحلام المستقبل التي لم تتحقق.

كان علينا الآن أن نفكر بترتيب مناسب لانفصالنا، حيث قمنا في البداية بتقسيم النقود التي معنا، فحصل كل منا على 270 مجيديا، ثم قسمنا السجائر فحصل كل واحد منا على 25 قطعة، حيث إننا لم نكن ندخن خلال الفترة الأخيرة سوى قطعة واحدة كل ستة أو سبعة أيام من ذلك التبغ الغالي، أما من المواد الغذائية، فقد حصل كل منا على علبة ساردين ونصف كمية الشاي، وقد قمت بشراء دلة القهوة والخرج (حقيبة مزدوجة توضع على شداد الجمل)، أما الورق، ومسحوق الحمى، والحبر، ونحو ذلك فقد قسمناه بيننا.

قدم لنا في المساء عشاء وفير، وخلال الأكل أضيء المكان بواسطة شعلة من سعف النخيل، كما قام أحدهم بطرد الذباب مستخدما مهفة صغيرة، وأخيرا صعدنا السطح، حيث أشعلت النار، وأصبح بمقدورنا من جديد استنشاق الهواء الطلق.

الاثنين 17/3/1884 م
باشرت مع بداية هذا اليوم العمل، فالنقوش الغالية على نفسي لم تدع لي مجالا للراحة، وكما ذكرت من قبل فإن هناك في العلا كمية كبيرة من الأحجار التي تحمل نقوشا أعيد استخدامها في بناء المنازل و الأسوار، لذلك ظللت أتجول طوال اليوم في أنحاء المدينة، حتى تمكنت من العثور على الكثير منها، وما أشد دهشتي حينما رأيت أنها كتبت بحروف الخط الحميري! وقد قمت في الحال بطبع جميع النقوش التي وجدتها هناك، أما سير العمل فلم يكن شاقا إلى حد ما، إذ لم أتمكن اليوم سوى من نسخ تلك النقوش القريبة من الأرض، ولكن العمل في يوم الغد سيكون بالتأكيد أفضل مما هو عليه اليوم. خلال جولتي تلك كان يرافقني العديد من الناس، كما كانوا يتزاحمون حولي بشدة حينما أقوم بعملية بصم (طبع) النقوش، لكن ذلك كان بالنسبة لي أمرا طبيعيا، فلم يحظ حتى الحكام برفقة مثل تلك الجموع من الناس. في المساء وصل حيلان الذي بعثه الأمير برسالة إلى تيماء وأماكن أخرى، ليبشر بالنصر الذي حققه مؤخرا، وقد كان يرتدي ملابس كثيرة، تمثلت في ثوبين وزبونين وعباءتين وأربع غتر على رأسه، في هذه الأثناء اكتظت القهوة بالناس، مما اضطر بعضهم إلى الوقوف في الفناء، لكي يتأكدوا من سماع أخبار النصر بأنفسهم من فم خادمنا محمود الذي تولى قراءة الرسالة كان فحوى الرسالة التي قام هوبر بتكليف محمود بنسخها له يقول (لقد خرج الأمير من حائل ومعه حوالي مائتين وسبعين جوادا وحوالي خمسة آلاف شمري بجمالهم في حملة، كان يبدو في أول الأمر أنها موجهة نحو الشمال، ولكنه ظهر فجأة في المجمعة الواقعة إلى الشرق من جبال طويق، ثم غير وجهته نحو الجنوب. وبالقرب من الزلفي في وادي الرمة تقابل مع سبعة وعشرين من عيون الخصم، فقام بمحاصرتهم وقتلهم على الفور، ولم يسلم منهم سوى اثنين تركهم على قيد الحياة، لكي يذهبوا إلى معسكرهم ويخبروه بما حدث. وفي مكان ليس ببعيد من سابقه هجموا مع طلوع الشمس على معسكر جماعة ابن سعود، حيث قتلوا ثلاثة من أعمامه، وغنموا منهم حمولة سبعة جمال من البنادق، وسبعة وثلاثين جوادا، وست عشرة خيمة، وذودين من الجمال، كل واحد منهما يصل تعداده إلى مائتي جمل. كما أغاروا أيضا على عتيبة الذين فروا من أمامهم في شهر نوفمبر الماضي، وغنموا منهم ثمانية أذواد من الجمال، وخياما وعددا كثير ا من الضأن، وعبيدا، وسبع رايات أمر الأمير بإرسال اثنتين منها إلى بريدة وعنيزة ليراها أهل القصيم، وواحدة إلى قبيلة الرولة، أما الأربع الباقية فقد ركزت في ساحة المسحب في حائل، وبعد هذا النصر ستضطر الآن قبيلة عتيبة بأكملها إلى الخضوع).

الثلاثاء 18/3/1884 م
في الصباح شربنا القهوة عند القاضي موسى، ثم كتبت بضعة أشياء، ولكنني لم أتمكن من مواصلة الكتابة فقد كنت أفكر كثيرا في النقوش والكتابات الحجرية، لذلك عدت إلى عملية نسخها من جديد، ولكنني من خلال ذلك العمل تأكدت من حجم الصعوبات والمشاق التي يواجهها من يتصدى لمثل هذا العمل في جزيرة العرب، إلا أن الحماسة لهذا الفن والتطلع إلى البحث العلمي يهونان من شأن تلك المصاعب، فالمرء حينما يحمل غنيمته من الورق عائدا إلى بلاده يكون أكثر سعادة وزهوا من الصياد الذي ينجح في اصطياد فريسته.

حقا إن عمل بصمة (طبعة، كليشة) في متاحف بلادي ليس فيه شيء من التعب، فهناك يقف الشخص أمام الحجر المنصوب باعتدال، ويتناول الورق والماء والفرشاة بكل راحة وهدوء، فليس هناك ريح قوية تؤدي إلى تطاير الورق من بين يديه، ولا يوجد حوله مئات من أولئك الذين يطأطئون رؤوسهم الشاهدة سير العمل باهتمام بالغ. على أي حال بعد أن ارتكبت حماقة لسماعي نصيحة هوبر بترك السلم في مدائن صالح اضطررت من أجل عمل بصمة للنقوش المكتوبة على الأحجار المثبتة في أعالي الجدران، إما أن أركب على ظهر خادمنا محمود، أو على جذع نخلة مسند على الجدار. وفي أحد البيوت الواقع فوق ممر يرتفع ثمانية أمتار تقريبا كانت توجد نافذة يعلوها حجر مكتوب عليه نقش بالخط الحميري. ونظرا لضيق فتحة النافذة فقد احترت في كيفية الوصول إليه، ولكنني استأذنت من صاحب ذلك البيت المظلم، وصعدت إلى الطابق الثاني حيث النافذة، وبينما كنت أسير هناك كادت الغرفة والنافذة آن تسقطا على الآرض، وهناك تبين لي آن باب النافدة لا ينفتح سوى إلى الداخل ونحو الزاوية اليمنى، وارتفاعها لا يتعدى الخمسين أو الستين سنتمترا، ولا يسمح بدخول جسم الإنسان بسهولة من خلالها، لذلك اضطررت في البداية إلى الانبطاح على بطني، وزحفت داخل النافذة حتى منتصف جسمي، ثم انقلبت على ظهري. وهنا بدأ مرافقي عبد الله بن إسماعيل مويش بوضع الورق المبلل بالماء على صدري فآخذه وأقوم بلصقه على الحجر المنقوش، وفي الوقت نفسه يجب علي أخذ الفرشة الموضوعة على صدري أيضا لكي أتم عملي كما ينبغي. هكذا وبينما كان مرافقي يجلس طوال الوقت فوق رجلي خوفا من أن أفقد توازني وأسقط من خلال النافذة أنهيت عمل ثلاث بصمات (كليشات) للنقش. وخلال ذلك العمل كان أهالي بلدة العلا الطيبون يهزون رؤوسهم معتبرين ذلك الصنيع نوعا من العبث، ولابد أنهم تصوروا أن تلك الأحجار التي قمت بنسخها تساوي وزنها ذهبا وفضة. بعد أن أتممت عملي عدت والسعادة تغمرني إلى البيت.

في هذا اليوم وبينما كانت القهوة مكتظة بالناس حدث جلسة محاكمة ساخنة، وعلى حين فجأة دخل عدد من الأشخاص وصعدوا فورا عبر الدرج إلى أعلى، وهناك في الطابق الثاني بدأ الصراخ بصوت مرتفع، حيث بدأت هناك جلسة محاكمة لذلك الشخص الذي رفض دفع الضرائب، معللا ذلك بأن أمير حائل ليس له حق بمطالبته بأي شيء، لكونه ليس أميرا عليه، وإنما أميره شخص آخر، ولكي يشددوا عليه ويخيفوه أحضروا الخشبة أو ما يسمى بالحبس، وبالفعل أبدى ذلك الشخص استعداده للدفع قائلا: إن النقود في المنزل، فقاموا بإرسال جنديين لمرافقته، ولكنه حينما اقترب من الباب انطلق هاربا، وحيال ذلك فلا بد أن القضية ستطول، فبمجرد القبض عليه سيوضع في الحبس حتى يدفع المبلغ المطلوب منه.

دعينا في المساء للعشاء عند شخص يدعى عبد الله، حيث قدم لنا أكلة محلية معروفة هناك تتكون من الأرز وفوقها البصل المحمر وقطع من البيض ولحم الماعز، بعد ذلك ذهبت إلى سطح منزلنا وجلست في الهواء الطلق أدخن واحدة من تلك السجائر الخمس والعشرين التي بقيت في حوزتي، وقد كنت أتطلع إلى دخانها المتصاعد بحسرة، واضعا في حسابي أنه لم يبق معي منها سوى أربع وعشرين سيجارة.

الأربعاء 19/3/1884 في الصباح كان كل شيء جاهزا من أجل رحيل هوبر وحيلان الذي سيسلك الطريق نفسه الذي سيسير عبره هوبر. ذهبنا بصحبة عدد كبير من الأهالي إلى البوابة، وهناك ودع بعضنا بعضا، وتمنيت لهوبر من أعماق قلبي أن ينهي رحلته الخطرة تلك بكل سلام، نعم إن من المؤلم حقا أن يرى المرء صاحبا رافقه في الغربة وقاسمه السعادة والتعاسة يغادر إلى مكان مجهول. ماذا تراه سيواجه؟ وماذا سيحدث لي؟ فعلى حين تهددنا الأخطار من كل جانب أصبح كل منا الآن يعتمد على نفسه. ومن المؤسف أن أمنياتي تلك لهوبر لم تتحقق، فقد قتل في يوم التاسع والعشرين من يوليو من العام نفسه. في حين إن ما تمنيته لنفسي بأن تنتهي هذه الرحلة إلى الجزيرة العربية بسلام قد تحقق ولله الحمد. لا أريد الآن أن أطيل الحديث هنا وأستبق سرد الأحداث فسأذكرها في حينها. بعد أن ودعت هوبر عدت إلى سطح منزلنا، وبدأت أنظم يومياتي.

بعد الظهر أنزلت أمتعتي من السطح إلى داخل المنزل، لأن سعيدا أصبح يعتقد أنها لم تعد في مأمن هناك وربما تسرق خلال الليل. وفي حوالي الساعة الواحدة ظهرا تسللت برفقة الخادم مرزوق دون أن يرانا أحد إلى الهضبة الصخرية الواقعة في وسط البلدة التي تسمى أم ناصر، وهناك عملت بصمة (كليشة) لنقش كتب بخط حميري، وأثناء نزولي حاملا البصمة عبر ذلك الطريق الخطر وجدت أربعة نقوش جديدة خلف بعضها البعض، من بينها واحد كتب بالخط النبطي ومؤرخ في السنة الأولى لحكم حارثة ملك الأنباط. بينما كان مرافقي الخادم مرزوق يساعدني بكل مهارة ودقة ظلت تضايقنا جموع الأهالي من مختلف الأعمار بفضولها ووقاحتها، ليس ذلك فحسب بل إنهم طالبوني بإعطائهم بخشيشا ، تلك الكلمة التي سمعتها لأول مرة ونحن نسير عبر درب الحج، ولم أسمعها بعد ذلك ولله الحمد منذ وقت طويل، ومن المدهش أن واحدا منهم طلب مني بخشيشا مدعيا القول بأنه من بلاد النصارى، فما كان مني إلا أن بصقت على الأرض وقلت له: إنك لست من بلاد النصارى، بل أنت واحد من أولئك الكذابين. وفي مساء هذا اليوم تناولت عند سعيد عشاء عاديا تكون من الخبز والتمر

الخميس 20/3/1884 م
في كل صباح يسمع المرء هنا في الجبال أهازيج الرعاة التي تبدو من خلال الأذن الأوربية وكأنها رنين موسيقى، لدرجة أن المرء يشعر وكأنه في منطقة التيرول ، ولعل الطبيعة الجبلية للمنطقة هي التي تملي على سكانها مثل هذا النوع من الغناء. في الغالب تؤدي الأمطار التي تسقط على أطلال بلدة العلا القديمة التي تسمى الخريبة إلى إظهار بعض القطع الأثرية فوق سطح التربة، ونتيجة للأمطار التي هطلت هناك مؤخرا فقد أحضر لي في صباح هذا اليوم إناء من الفخار وجد هناك. تناولت اليوم طعام الإفطار في منزل شخص لا أعرفه، ثم شربت القهوة كالعادة في مرات عديدة عند القاضي موسى، بعد ذلك توجهت محاولا العثور على ملابس لذلك المسكين مرزوق الذي عمل معي يوم أمس بجد وإخلاص، فهو- على الأقل بالنسبة لي- يستحق المساعدة لكونه يسير وهو مرتدي قطعة قماش شفافة، لذلك قمت بشراء ثوب له كلفني مجيديا واحدا.

جاء بعد الظهر شخص بلوي أي من قبيلة بلي يحمل أخبار غزو انطلق في الأمس من الشمال إلى هذه الأنحاء، فورا تذكرت هوبر وحيلان، وتمنيت ألا يقعا في أيدي قطاع الطرق، وسرعان ما انتشرت الإشاعات المختلفة حول ذلك الغزو، ففي البداية قيل: إن حيلان ورفيقه المدعو شملاني تعرضا لهجوم من قبل أفراد قبيلة بلي، وسلبوا منهم إبلهم وكل أمتعتهم، بعد ذلك سمعنا أن شملانيا هذا هو الشيخ سليمان بن رفادة المنتمي لقبيلة بلي ويسكن في بلدة الوجه، ثم ظهرت إشاعة أخرى مفادها أن أولئك اللصوص ردوا على حيلان كل أمتعته ماعدا ناقته، لأنها تحمل وسما لقبيلة هتيم، وأخيرا قيل لنا: إن هذا الخبر الأخير غير صحيح. وفيما يتعلق بمصير هوبر
فسنذكره أثناء حديثنا عن أحداث يوم الخامس والعشرين من شهر مارس. توجهت فيما بعد لأتجول في البلدة باحثا عن النقوش، حيث عثرت على ثمانية نقوش جديدة حصيلة لهذا اليوم، ولكن اثنين منها- يا للعنة- كتبا على حجرين مثبتين في أعلى الجدار، ولن أستطيع الوصول إليهما دون سلم.

انزلت أمتعتي خلال النهار مرة أخرى من سطح المنزل، لأنها لم تعد هناك في مأمن من اللصوص الذين يقفزون فوق السطوح، وحتى لا يكون مصيري مثل ذلك التاجر الذي قدم إلى هنا من دمشق قبل بضع سنوات، فسرقت منه حمولة جملين من الأسلحة كان قد وضعها فوق سطح المنزل. كانت ليلة البارحة تمر ثقيلة جدا على خلوة امرأة سعيد، فقد أنجبت قبل حوالي أربعة أو خمسة أسابيع طفلا، ومن جراء ذلك ظلت تعاني من ألم شديد في الجهة اليسرى من بطنها، وقبل أن يرحل هوبر من هنا بوقت قصير أعطاها علاجا لا يتناسب مع طبيعة مرضها، وبعد أن سمحت لي اليوم بأن أكشف عليها بدقة اتضح أنها ربما تعاني من التهاب في أرحامها. وقد وعدتني بأن تمنحني نصف مجيدي إن أنا تمكنت من مساعدتها في الشفاء من مرضها، وهنا عملت لها كمادة ونصحتها بأن تضعها فوق موضع الألم فترة من الوقت. وبعد ذلك حضرت إلي ديسة حماة الشيخ (أو ربما هي زوجه الأولى؟) ومنحتني سلة متسخة، فأهديتها مقابل ذلك نصف مجيدي.

كان العشاء يتكون اليوم من الرز مع بعض من قطع ضلوع الماعز، وبعض البيض والخبز وحليب مضاف إليه شيء من السكر.

الجمعة 21/3/1884م

لم يشهد اليوم أحداثا كثيرة، لذلك وجدت الفرصة سانحة كي أتأمل في ذباب بلدة العلا وأوساخها وكذلك طبيعة الحياة في إحدى مدن وسط الجزيرة العربية. وفي صباح هذا اليوم حضر الكثير من الناس لشرب القهوة عند سعيد، وبدؤوا يتحدثون مع بعضهم البعض بصوت مرتفع كما هي العادة، ومن ثم ذهبت إلى منزل عبد الله مويس لأعمل بصمة لأحد النقوش الحميرية هناك، بعد ذلك سمعت خبرا يقول: إن هوبر رجع مرة أخرى إلى الحجر وسيغادرها اليوم. حقا لقد عانيت من شيء طالما أزعجني، وهو الاعتداء عمدا أو مصادفة على النقوش وتدميرها، ففي الأمس مثلا اكتشفت في أسفل مدخل يقع بالقرب من سور المدينة المجاور أيضا لملعب الأطفال نقشا جديدا، وبينما كنت واقفا مع مرزوق أنبهه على التأكد من موضع النقش كي نتمكن في يوم الغد من بصمه رآني مجموعة من الصبية فأسرعوا نحوي كي ينظروا ماذا أفعل، وحينما ذهبنا في اليوم التالي إلى موضع النقش حاملين معنا أدوات البصم وجدناه في حالة سيئة، حيث قام أولئك الأطفال الأغبياء برجمه بالحجارة، ولكنه ولحسن الطالع تبين لي أن الحجر كتب عليه نقش ليس بذي أهمية بالغة. والآن لنتحدث عن الذباب والوسخ، فالذباب هنا كثير جد ا لدرجة أنني نادرا ما عملت بصمة لأحد النقوش دون أن يعلق فيها ذبابتان أو ثلاث أو أربع بل عشر بين الورق المبلل والحجر المنقوش، كذلك في الأكل ولاسيما التمر، فلا يستطيع المرء وضع شيء في فمه إلا ويدخل معه بعض من الذبان، حتى دلة القهوة فإن لم تكن على الجمر مباشرة وجب عليهم تغطيتها بواسطة قطعة من القماش مع إحكام قفل غطائها وإغلاق ثعبتها بقطعة من خيشة. أما بخصوص الأوساخ والأتربة في بلدة العلا فليس بمقدور المرء تصورها إن لم يكن قد رآها، فالشوارع والأحواش مملوءة بالنفايات وروث الحيوانات وفضـلات البشر، لدرجة أن المرء بكل خطوة يخطوها إلى الأمام يكاد ينزلق فيها. كما أن الغبار المثقل بآلاف الملايين أو أكثر من الجراثيم يحيط بالمرء من كل ناحية داخلا عبر الفم والأنف والعين والأذن وأيضا مسامات الجلد ذاتها، فالمرء يراه ويحسه ويستنشقه ويعيش معه. عند المساء ذهبت مع عبد الله مويس إلى بستانه الذي يوجد فيه عين تصل درجة الحرارة فيها إلى 28.5 درجة، وينمو فيها عدد كثير من القواقع الشبيهة بتلك التي رأيناها في تيماء. بعد ذلك ذهبت معه إلى بيته لتناول طعام العشاء.

السبت 22/3/1884 م
تحتفل بلادي في مطلع هذا اليوم المنعش بعيد ميلاد القيصر، ولكن البسطاء هنا ليس لديهم تصور عن القيصر، وماذا عسى أن تكون ألمانيا؟ فمن المستحيل ومن غير المجدي أن أحدثهم حول هذا الموضوع، فلو كنت في حائل لربما وجد من يتفهم ماذا أقول. بعد الظهر بدأ مرزوق يعمل بصمات للنقوش التي عثرنا عليها مجددا، وقد كان واحد منها مرتفعا لدرجة أن جذع النخلة لا يصله مما جعلني أصرخ قائلا: أين السلم؟ فلو كان معي لتمكنت من الوصول إلى ذلك النقش، ولكنه محفوظ في قلعة مدائن صالح، يا هوبر، لقد سببت نصيحتك تلك عواقب وخيمة! وأنا أيضا كنت حمارا غبيا حين سمعت نصيحتك! عموما لقد تمكنت- معرضا نفسي للخطر- من الوصول إلى نقش آخر كان هو أيضا يقع في أعلى الجدار، وذلك من خلال الصعود عبر ساق شجرة غير متين كاد ينكسر من وسطه. في مساء هذا اليوم كان يجلس في القهوة ذلك الشخص الذي ذكرت آنفا أنه هرب من دفع الضرائب، فبعد أن أرسل إليه سعيد رسالة يؤكد له فيها عدم التعرض له بسوء قدم من منفاه في قلعة مدائن صالح. وقد كان يجلس بكل هدوء حول النار مع سعيد أبي علي الذي بدأ يحاوره من أجل أن يدفع الضريبة، وعاودا جلستهم تلك في صباح يوم الغد، حيث أدى الصراخ والارتعاش بمضيفي سعيد إلى نسيان إعداد القهوة. كان الجو حارا هنا، لذلك كانت سعادتي بالغة جدا حينما تمكنت بعد شرب القهوة من الصعود إلى السطح والجلوس هناك بعض الوقت.

الأحد 23/3/1884 م
كان الطقس صباح اليوم رطبا والسماء ملبدة بغيوم ثقيلة تنبئ عن قرب هطول المطر على المنطقة. في البداية قمت بشراء نقش نبطي مؤرخ من السنة الأولى لحكم حارثة ملك الأنباط دفعت لصاحبه مجيديا واحدا، وأعطيته نصف مجيدي لكي يقوم بتكسيرأجزاء من الحجر دون أن يتعرض للنقش كي يخف وزنه ويسهل حمله، كما قمت بمحاولة شراء حجرين آخرين كتب عليها بخط لحياني، ولأن صاحب النقش الأول رفض بيعه لي مقابل مجيدي واحد، أما الثاني والذي جلب في الأصل من مذبح أحد المعابد، فأتوقع الحصول عليه مقابل مجيدي واحد، وبالفعل تمكنت من الحصول عليه في مساء يوم الغد، وحيث إنه كان مثبتا في مكان عال من الجدار فقد اضطررت لبذل جهد كبيرمن أجل خلعه من مكانه. وصل اليوم مجموع ما حصلت عليه من النقوش في بلدة العلا إلى خمسين نقشا، إضافة إلى نقشين آخرين قيل لي: إنهما موجودان في بساتين النخيل، كما أن الخادم مرزوق - والذي أصبح بسبب الإكراميات المختلفة نشيطا- اكتشف نقشين جديدين، ومجموعة أخرى من النقوش العربية القليلة الأهمية، إضافة إلى ذلك فالناس هنا غالبا ما يطلبون حضوري إلى منازلهم التي يعتقدون أنه يوجد فيها نقوش، على الرغم من أن بعضها لا يتعدى كونه حجرا مهذبا، أو حجرا عليه آثار زخرفة غير واضحة المعالم، ولكن المرء في مثل هذه الحالة يجب عليه عدم تثبيط عزائمهم وسلب السعادة بسبب ذلك منهم، وحتى لا يضـطروا أيضا إلى عدم عرض أي شيء عليه. أضحى الذباب اليوم وكأنه أصيب بمس من الشيطان، وذلك بسبب قرب هطول المطر الذي انهمر مصحوبا بالرعد والرياح منذ الساعة الرابعة، لهذا السبب أيضا انتقلت اليوم من مكاني في السطح إلى البيت.

الاثنين 24/3/1884 م
حان الوقت الآن لكي أقف بنفسي على أطلال بلدة العلا القديمة، فمنذ أسبوع وأنا محبوس داخل أسوار هذه البلدة اللطيفة التي لو لم يكن فيها نقوش كثيرة تملأ علي وقت فراغي لما تمكنت من البقاء فيها. وفي الحقيقة كنت طوال هذه المدة أتطلع إلى القيام بجولة على الأقدام خارج أسوار البلدة، وكم كنت أتمنى أن تكون هذه الجولة على ظهر الجمل كي أتمكن من مشاهدة جميع الآثار القديمة هناك.

تجمع مع شروق شمس هذا اليوم في قهوة سعيد ثلاثة وعشرون شخصا كلهم مسلحون، وما هي إلا برهة من الوقت حتى وصل العديد من قطعان الماشية والحمير والنساء والأطفال كلهم يرغبون في استغلال هذه الفرصة النادرة ليصلوا إلى مواطن الأعشاب التي لا تبعد سوى ربع ساعة من المسير خارج أسوار بلدة العلا. وأخيرا خرج الجميع يتقدمهم مجموعة من الكشافة (المستطلعين، العيون) الذين كانوا يصعدون كل مرتفع من الأرض زاحفين على بطونهم كي يراقبوا كل مكان أمامهم. في هذه الأثناء رأينا بعضا من قطاع الطرق المنتمين لقبيلة بلي، . ولكنهم اضطروا للتراجع وهم يرون تلك الجموع الهائلة من الناس تتقدم نحو الأمام. تقع الأطلال الأثرية في مكان مرتفع من الأرض في بطن الوادي المحصور بين الجبال العالية، وهي عبارة عن أكوام متفرقة من قطع الأحجار الرملية الحمراء، والى اليمين واليسار من هذه الأطلال الأثرية ينمو العديد من أشجار الطلح والأعشاب، وفي وسط التلال الأثرية يبرز حوض منحوت من الحجر الرملي بحجم ضخم جدا بداخله ثلاث درجات متداعية، وهو ما يطلق عليه أبناء المنطقة حلاوية النبي صالح، لاعتقادهم أن ناقة النبي صالح ذات الحليب الوفير تشرب منه. علاوة على ذلك عثرت هناك على اثنتين من أرجل التماثيل، الأولى كبيرة وتفوق الحجم الطبيعي وعلى قدمها آثار النعال ، أما الثانية فهي صغيرة. شاهدت هناك على سطح الموقع العديد من بقايا الأواني الحجرية، كما أحضر لي الأطفال أيضا كسرة من تمثال صغير الحجم يصل ارتفاعه حوالي ثلاثين سنتمترا، ذي تسريحة شعر تشابه تلك التي نراها على التماثيل المصرية القديمة، وربما تكون تلك الرجل الصغيرة التي ذكرتها آنفا تابعة له. أما بالنسبة للمقابر فهي هنا بسيطة جدا ولا يزال يوجد داخلها بعض بقايا التوابيت الخشبية، وكسر من الأحجار، وبعض الأواني الفخارية، وقطع من الأكفان. وفي أحد المنحدرات عثرت على كميات كثيرة من خبث المعادن ذي اللون الأخضر والأسود، يلاحظ القارئ أماكن وجودها على المخطط المرفق لبلدة العلا.

إضافة إلى ذلك وجدت عددا كثيرا من النقوش، جميعها تنتمي إلى مجموعة الكتابات السامية الجنوبية (معينية، لحيانية)، ماعدا واحدا منها فهو نبطي، ويحتوي على علم لشخص متبوع باسم أبيه.
انطلقت بعد ذلك لمواصلة طريقي من الشمال باتجاه الجنوب نظرا لاعتقادي أنني سأجد هناك على صفحات الجبال آثارا من العصور القديمة، في هذه الأثناء ذكر لي رفاقي عدم وجود آثار في الجهة الجنوبية الغربية، ونصحوني بعدم الذهاب إلى هناك لخطورة تلك المنطقة، ولكنني لم أقع تحت تأثير تحذيرهم، بل واصلت طريقي يرافقني أربعة رجال مسلحين، وبينما كان رفاقي يسيرون بموازاتي في بطن الوادي إلى الأمام شاهدت هناك على صفحة الجبل أربع فتحات بداخلها أربعة تماثيل خرافية ذات أسنان بارزة إلى الأمام كل اثنين منها بجانب بعضهما البعض، وتذكر إلى حد كبير بأشكال المنحوتات المصرية والمكسيكية القديمة، وبين الاثنين الأولين نقش كتب بخط جيد. ولكنني بسبب علوه وصعوبة الطريق إليه لم أتمكن من مشاهدته بوضوح، كذلك الحال أيضا بالنسبة للنقوش الأخرى التي كتبت على ارتفاع يتراوح ما بين 10- 15 مترا.

حين بدأت أشعر بالتعب والإنهاك نزلت إلى مخيم رفاقي حيث أعدت هناك القهوة الحلوة والعادية. بعد ذلك بدأت مسيرة العودة، حيث ظهرت أمامنا بلدة العلا ببساتين نخيلها وأسوارها الطينية وهضبة أم ناصر التي تتوسطها، وبينما كنا على مقربة من البلدة لاحظت أن الأطراف العليا لأسوار البلدة مزينة بالزخارف، حقا لقد كانت مسيرة العودة أشبه ما تكون بموكب للنصر، فالجميع كانوا سعداء بنجاح الرحلة دون حدوث أي تصادم مع قطاع الطرق، نعم لقد ابتهج الجميع لمجرد خروجهم، والآن سعادتهم أكبر وهم عائدون سالمين إلى بلدتهم. كانت قطعان الماشية تتقدم الجميع إلى الأمام نحو البلدة، وخلفها أسير أنا ممتطيا ذلولي التي أثارتها كثرة الذباب، ومن خلفي يسير حاكم البلدة سعيد، ومن ورائه يسير الرماة في طابور مستقيم يتقدمهم شخص يرقص وهم يطلقون الواحد تلو الآخر نيران بنادقهم مما جعل واحدا منهم يسقط على الأرض من شدة إطلاق النار، وفي هذه الأثناء وبينما كنت أسمع صوت إطلاق النار كنت أعتقد في كل لحظة أن تستقر الطلقة القادمة في ظهري. بعد أن وصلنا إلى البلدة التقيت مع شخص اسمه غضيان سوف يرافقني خلال رحلتي القادمة إلى الوجه، وهو شقيق كبير شيوخ قبيلة بلي المدعو مرزوق بن رويحل، وبعد تباحث بسيط أعرب عن استعداده لمرافقتي مقابل 20 مجيديا، وقال إن الأمر يحتاج أيضا إلى بعض الرجال لتوفير الحماية الكافية. لقد كان الرجل شابا ويوحي بالثقة، وكان برفقته خادمه عبيد الذي كان يمتطي ذلولا أوضح (أبيض). وفي المساء أحضر إلي في المنزل ذلك المذبح الصغير الذي يعلوه نقش لحياني والذي حاولت اقتناءه يوم أمس. نعم لقد كنت راضيا تمام الرضا على اقتنائي إياه، كيف لا وقد أصبح خلال فترة طويلة بمثابة الدرة بين كافة مجموعاتي، إنه الآن موجود في مكتبة جامعة شتراسبرج. بعد ذلك وبينما كانت الأمطار تنهمر إلي الشمال والشرق من البلدة ذهبت إلى فراشي والسعادة تغمرني على نجاح مسعاي لهذا اليوم.

الثلاثاء 25/3/1884 م
من المقرر أن ننطلق اليوم نحو الحجر، ذلك الهدف الذي أشتاق إليه دوما، فهناك توجد النقوش الرائعة والكبيرة التي وصلت أولى المعلومات الدقيقة عنها إلى أوربا من خلال (داوتي)، تلك النقوش التي حفزت حماسي للقيام برحلتي إلى الجزيرة العربية، والتي آمل أن أخرج منها بنتائج كثيرة حول تاريخ العرب والأنباط.

قبل الرحيل إلى هناك قمت بنسخ ثلاثة نقوش سامية جنوبية كانت توجد في بستان للنخيل يقع على مسيرة نصف ساعة باتجاه الشمال. ثم أعددت كل شيء استعدادا للسفر الذي تأخر حتى الظهر، في هذه الأثناء وبينما كنت أنتظر اكتمال تجهيزات الرحلة رأيت غلاما يرتدي قطعتين رقيقتين من القماش، الأولى لفها على صلبه والثانية وضعها فوق رأسه، حيث تعرض قبل قليل لحالة سلب من قبل أفراد قبيلة بلي.
انطلقنا بصحبة مجموعة كبيرة من الناس الذين رافقوني حتى بوابة البلدة. وهنا ودعت العلا ونقوشها وسكانها الفضوليين وذبابها وأوساخها. حقا لقد وجدت فيها أشياء ممتعة، ولكن أشياء أخرى أكثر إمتاعا تنتظرني الآن. بالتأكيد لم يكن ذلك هو الوداع الأخير للعلا فسأعود إليها بعد أيام قلائل، مثلها مثل هوبر الذي ودعته قبل أيام ثم رأيته، وكما يقول المثل المحلي هنا: (المخيط مرتين يعيش أطول)، نعم فبعد أن ودعت هوبر والعلا للمرة الثانية لم أرهما بعد ذلك طوال حياتي. انطلقنا في حوالي الساعة الثانية عشرة، حيث كنت أسير خلف غضيان الذي كان يتقدمنا مع رديفه عبيد راكبين ذلولا وضحاء (بيضاء) ومعهما بعض أمتعتي، كان في مقدورنا هذه المرة نتيجة لمرافقة هذا البلوي لنا أن نسلك طريقا مباشرا باتجاه الشمال عبر شعيب العذيب، في حين اضطررنا في يوم السادس عشر من شهر مارس السير عبر طريق غير مباشر نحو العلا، وذلك بسبب تخوفنا من أفراد قبيلة مرافقي الذين كانوا يقطنون في تلك الأنحاء، مما جعل الطريق آنذاك غير آمن بالنسبة لنا. لقد شاهدت هناك في شعيب العذيب عددا من النخيل المهملة والأدغال التي توسطها الآبار، وذلك ما يجعل منه ملاذا مناسبا لقطاع الطرق واللصوص. بعد هذا الشعيب انحرف طريقنا باتجاه اليسار عبر مجموعة هضاب القرضية. بعد ساعتين تقريبا من المسير مررنا بجوار جبل مكتظ بنقوش ذات خطوط مختلفة، حيث تعلو صفحاته نقوش كتبت بالخط الآرامي القديم والخط الثمودي والخط النبطي والخط اليوناني والخط اللاتيني، وما تنوع هذه الخطوط هنا إلا شاهد واضح على العمق الحضاري
والتعاقب التاريخي لبلدة الحجر. أما موضوعات هذه النقوش فتندرج تحت ما يسمى (نقوش الذكريات) التي من خلالها خلد أولئك القدماء أسماءهم على مر الزمن. يقول المثل الألماني (يد المجنون تلطخ (توسخ) الجدار والطاولة)، ولكننا نحن المتخصصين بالنقوش والخطوط القديمة في غاية البهجة، لأن أيادي أولئك القدماء امتدت إلى الجدار والأحجار لتدون عليها أسماؤها، فحتى وإن كانت المعلومات التي تحتويها تلك النقوش عديمة المعنى والأهمية، فمن تلك الحروف القليلة يمكن للمرء أن يستنتج معلومات قيمة حول التاريخ واللغة والحضارة والدين وتاريخ تطور الكتابة. حقا لقد توقفنا طويلا أمام صفحة ذلك الجبل على الرغم من أن مرافقي كان مستعجلا ولم يكن يرغب في حقيقة الأمر بالتوقف، لذلك فلم يسمح لي بنسخ تلك النقوش الواقعة إلى الشرق من الطريق. وهكذا اضطررت للموافقة، وقلبي يتحسر على عدم تمكني من نسخ بعضها، ولكن أملي أن يهتم بها المختصون لاحقا.

اقتربنا الآن أكثر من بنايات المقابر الرائعة في مدائن صالح ذات النقوش النبطية الطويلة على واجهاتها، والتي من أجلها كان الهدف الرئيسي لرحلتي إلى جزيرة العرب. لقد رسمت منظرين توضيحيين لعلهما يوضحان كيف كانت تبدو تلك المقابر من بعيد. حينما اقتربنا من المقابر ترجلنا وتركنا الجمال ترعى تحت بصر عبيد، أما أنا فأسرعت إلى المقابر وبدأت أرسمها بهمة وعزم.

كانت المقابر منحوتة في الصخر وتكتظ واجهاتها بالعديد من الزخارف والأشكال المصورة بشكل بارز على الصخر، ولعل الرسوم التوضيحية المرفقة تقدم فكرة بسيطة عن الأشكال الرئيسة على واجهات تلك المقابر. أما أجمل هذه المقابر وأكبرها- إلى اليمين أسفل الرسمة - هي تلك التي تسمى مقبرة الفريد.
و الآن لنلقي نظرة على المقبرة من الداخل فهي تحتوي على أرائك (أسرة) الموتى المشابهة لأدراج فارغة أو حفرة مستطيلة منحوتة في جدار صخري، بعضها منحوت في أرضية المقبرة وكأنها توابيت غير مغطاة. كانت النقوش النبطية الرائعة التي نشرت ترجمة لها في كتابي (نقوش نبطية من الجزيرة العربية) توجد فوق مداخل المقابر. ومن الملاحظ أيضا أن بعضا من هذه المقابر خالية من أي نقوش وبعضها يظهر فوقها تجويف صغير ربما كان مثبتا عليه فيما مضى لوح من المرمر أو البرونز. جدير بالملاحظة أيضا أن كافة النقوش المكتوبة على المقابر هنا نبطية الخط، مما يعني أننا انتقلنا من الحميريين في العلا إلى النبطيين في الحجر، وهذا ربما يشهد بدوره على أن العلا كانت مستودعا للبضائع التجارية القادمة من جنوب جزيرة العرب، وأنها كانت بمثابة المستقر للتجار المعينيين والسبئيين، أما الحجر فهي مركز الآراميين أو العرب المتأثرين بالثقافة الآرامية، وهنا يمكن القول أيضا: إن المنطقة الواقعة في الوسط بين البلدتين كانت بمثابة المكان الذي يتبادلون ويعيدون فيه تصدير بضائعهم التجارية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل كلتا المدينتين ازدهرتا في وقت واحد، أم أن الحجر احتلت مكانة العلا بعد أن قلت أهميتها؟

من هم أولئك الثموديون أو بنو ثمود الذين لا يزال ذكرهم مستمرا حتى اليوم على ألسنة الشعوب العربية؟ يعتقد السكان المحليون هنا بالرغم من وجود بقايا العظام البشرية وبقايا أخشاب التوابيت أن تلك المقابر المنحوتة في الصخر كانت مساكن الثموديين القدماء.


















عرض البوم صور جلال الدرعان   رد مع اقتباس