بسم الله الرحمن الرحيم
ففي تفسير البغوي ج3/ص379
(والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) يعني أولادا أبرارا أتقياء يقولون اجعلهم صالحين فتقر أعيننا بذلك قال القرظي ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله عز وجل وقاله الحسن ووحد القرة لأنها مصدر وأصلها من القر لأن العرب تتأذى من الحر وتستروح إلى البرد وتذكر قرة العين عند السرور وسخنة العين عند الحزن ويقال دمع العين عند السرور بارد وعند الحزن حار وقال الأزهري معنى قرة الأعين أن يصادف قلبه من يرضاه فتقر عينه به عن النظر إلى غيره (واجعلنا للمتقين إماما), يعني أئمة يقتدون في الخير بنا ولم يقل أئمة كقوله ( أنا رسول رب العالمين) وقيل أراد أئمة كقوله ( فإنهم عدو لي) يعني أعداء ويقال أميرنا هؤلاء أي أمراؤنا وقيل لأنه مصدر كالصيام والقيام يقال أم إماما كما يقال قام قياما وصام صياما قال الحسن نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون وقال ابن عباس اجعلنا أئمة هداة كما قال (وجعلناهم أئمة يهتدون بأمرنا) ولا تجعلنا أئمة ضلالة كما قال (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) وقيل هذا من المقرب يعني واجعل المتقين لنا إماما واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم وهو قول مجاهد
(أولئك يجزون الغرفة) يعني ينالون الغرفة يعني الدرجة الرفيعة في الجنة والغرفة كل بناء مرتفع عال وقال عطاء يريد غرف الدر والزبرجد في الجنة (بما صبروا) على أمر الله وطاعته وقيل على أذى المشركين وقيل عن الشهوات (ويلقون فيها ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بفتح الياء وتخفيف القاف كما قال (فسوف يلقون غيا) وقرأ الآخرون بضم الياء وتشديد القاف كما قاف (ولقاهم نضرة وسرورا ) وقوله: (تحية), أي ملكا وقيل بقاء دائما (وسلاما) أي يسلم بعضهم على بعض وقال الكلبي يحيي بعضهم بالسلام ويرسل الرب إليهم بالسلام وقيل سلاما أي سلامة من الآفات
(خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ), أي موضع قرار وإقامة
تفاوت أهل الجنة
فالناس في الجنة على درجات متفاوتة كما قال : (إنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ), وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غير ذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة
وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء الله ورسله وجميع أوليائه السابقين المقربين وأصحاب اليمين كما في السنن أن النبى سأل بعض اصحابه كيف تقول في دعائك قال أقول اللهم إنى أسألك الجنة وأعوذ بك من النار أما أنى لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال حولهما ندندن)
وأهل الجنة نوعان: سابقون مقربون وأبرار أصحاب يمين قال (كلا أن كتاب الأبرار لفى عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفى نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفى ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون), قال إبن عباس تمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشربها المقربون صرفا" مجموع الفتاوى ج10/ص700
الطريق إلى النعيم
وفى حديث معاذ الذى قال فيه: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدنى من النار قال لقد سألت عن عظيم وانه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل من جوف الليل ثم تلى تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون حتى بلغ يعملون ثم قال لا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه رأس الأمر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ثم قال الا اخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى قال فأخذ بلسانه فقال اكفف عليك هذا فقلت يا رسول الله وانا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم الا حصائد ألسنتهم وقال (أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر اولوا الالباب) وقال: (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) وقال بعد قوله: (اقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ان قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) وقال في سورة المزمل قم الليل الا قليلا إلى قوله ان ناشئة الليل هي اشد وطئا واقوم قيلا واذا نسخ الوجوب بقى الاستحباب قال أحمد وغيره و الناشئة لا تكون الا بعد نوم يقال نشأ اذا قام وقال وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما وقوله انا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا فان هذا يتناول صلاة العشاء والوتر وقيام الليل لقوله وسبحه ليلا طويلا" مجموع الفتاوى ج23/ص86
خُلِقـنا لدار القرار
والله سبحانه انما خلق الخلق لدار القرار وهي الجنة والنار فأما الدار الدنيا فمنقطعة ولذاتها لا تصفوا ولا تدوم أبدا بخلاف الآخرة فإن لذاتها ونعيمها صاف من الكدر دائم غير منقطع ليس فيها حزن ولا نصب ولا لغوب وأهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يمتخطون بل فيها ما تشتهي الانفس وتلذ الاعين
وهم فيها خالدون فشهوة النفوس ولذة العيون هو النعيم الخالص والخلود هو الدوام والبقاء فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون سورة السجدة 17 فإن الله اعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعهم عليه
وهذا المعنى هو الذي قاله العبد الصالح حيث قال يا قوم اتبعوني اهدكم سبيل الرشاد ياقوم انما هذه الحياة الدنيا متاع وان الاخرة هي دار القرار سورة غافر 38 39 فأخبر ان الدنيا متاع نتمتع بها الى غيرها وان الاخرة هي المستقر "الاستقامة ج2/ص151
لذات الدنيا
وإذا عرف ان لذات الدنيا ونعيمها انما هي متاع ووسيلة الى لذات الآخرة وكذلك خلقت فكل لذة أعانت على لذات الآخرة فهو مما أمر الله به ورسوله ويثاب على تحصيل اللذة بما يئوب اليه منها من لذات الآخرة التي أعانت هذه عليها ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجه الله من أكله وشربه ولباسه ونكاحه وشفاء غيظه بقهر عدوه في الجهاد في سبيل الله ولذة علمه وايمانه وعبادته وغير ذلك ولذات جسده ونفسه وروحه من اللذات الحسية والوهمية والعقليةوكل لذة أعقبت الما في الدار الآخرة او منعت لذة الاخرة فهي محرمة مثل لذات الكفار والفساق بعلوهم في الارض وفسادهم مثل اللذة التي تحصل بالكفر والنفاق كلذة الذين اتخذوا من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله ولذة عقائدهم الفاسدة وعباداتهم المحرمة ولذة غلبهم للمؤمنين الصالحين وقتل النفوس بغير حقها والزنا والسرقة وشرب الخمر ولهذا اخبر الله ان لذاتهم املاء ليزدادوا اثما وانها مكر واستدراج مثل اكل الطعام الطيب الذي فيها سم وهذا المعنى قد قررته ايضا في قاعدة السكر
واما اللذة التي لا تعقب لذة في دار القرار ولا الما ولا تمنع لذة دار القرار فهذه لذة باطلة اذ لا منفعة فيها ولا مضرة وزمانها يسير ليس لتمتع النفس بها قدر وهي لا بد ان تشغل عما هو خير منها في الاخرة وان لم تشغل عن اصل اللذة في الاخرة
وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل الا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق رواه مسلم وكقوله لعمر لما دخل عليه وعنده جواري يضربن بالدف فأسكتهن لدخوله وقال ان هذا رجل لا يحب الباطل فإن هذا اللهو فيه لذة ولولا ذلك لما طلبته النفوس
خير المتاع
وإذا عرف أن لذات الدنيا ونعيمها متاع ووسيلة إلى لذات الدار الآخرة ولذلك خلقت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة فكل لذة أعانت على لذات الدار الآخرة فهي محبوبة مرضية للرب فصاحبها يلتذ بها من وجهين من جهة تنعمه وقرة عينه بها ومن جهة إيصالها له إلى مرضاة ربه وإفضائها إلى لذة أكمل منها فهذه هي اللذة التي ينبغي للعاقل أن يسعى في تحصيلها لا اللذة التي تعقبه غاية الألم وتفوت عليه أعظم اللذات ولهذا يثاب المؤمن على كل ما يلتذ به من المباحات إذا قصد به الإعانة والتوصل إلى لذة الآخرة ونعيمها فلا نسبة بين لذة صاحب الزوجة أو الأمة الجميلة التي يحبها وعينه قد قرت بها فإنه إذا باشرها والتذ قلبه وبدنه ونفسه بوصالها أثيب على تلك اللذة في مقابلة عقوبة صاحب اللذة المحرمة على لذته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وفي بضع أحدكم أجر قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر قالوا نعم قال فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر
واعلم أن هذه اللذة تتضاعف وتتزايد بحسب ما عند العبد من الإقبال على الله وإخلاص العمل له والرغبة في الدار الآخرة فإن الشهوة والإرادة المنقسمة في الصور اجتمعت له في صورة واحدة والخوف والهم والغم الذي في اللذة المحرمة معدوم في لذته فإذا اتفق له مع هذا صورة جميلة ورزق حبها ورزقت حبه وانصرفت دواعي شهوته إليها وقصرت بصره عن النظر إلى سواها ونفسه عن التطلع إلى غيرها فلا مناسبة بين لذته ولذة صاحب الصورة المحرمة وهذا أطيب نعيم ينال من الدنيا وجعله النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة بها ينال خير الدنيا والآخرة وهي قلب شاكر ولسان ذاكر وزوجة حسناء إن نظر إليها سرته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله فالله المستعان
وقال القاسم بن عبدالرحمن كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقرأ القرآن فإذا فرغ قال أين العزاب فيقول ادنوا مني ثم قولوا اللهم ارزقني امرأة إذا نظرت إليها سرتني وإذا أمرتها أطاعتني وإذا غبت عنها حفظت غيبتي في نفسها ومالي " روضة المحبين ج1/ص157
لذات الجنة
ولذات الجنة أيضا تتضاعف وتتزايد كما يشاء الله تعالى فإن الله يقول كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
قال الله أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ ما لَا عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ فاقرؤوا إن شِئْتُمْ فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ
فاعظم نعيم الآخرة ولذاتها النظر الى وجه الله جل جلاله وسماع كلامه والقرب منه كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر اليه وفي حديث اخر إنه اذا تجلى لهم ورأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وفي النسائي ومسند الامام أحمد من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه واسئلك اللهم لذة النظر الى وجهك الكريم والشوق الى لقائك وفي كتاب السنة العبد الله بن الامام أحمد مرفوعا كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القران من الرحمن فاذا سمعوه من الرحمن فكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك فإذا عرف هذا فأعظم الاسباب التي تحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الاطلاق وهي لذة معرفته سبحانه ولذة محبته فان ذلك هو لذة الدنيا ونعيمها العالي ونسبة لذاتها الفانية اليه كتلفة في بحر فان الروح والقلب والبدن انما خلق لذلك فاطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته فمحبته ومعرفته قرة العيون ولذة الأرواح وبهجة القلوب ونعيم الدنيا وسرورها من اللذة القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك فليس الحياة الطيبة الا بالله وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول إن كان أهل الجنة في نعيم مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وكان غيره يقول لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجلدونا عليه بالسيوف" الجواب الكافي ج1/ص167